في زمن يصحو فيه الإنسان بين ساحات العقلانية الحداثية والموروث الديني الذي يسكن وجدانه، ينهض داريوش شايغان في هذا الكتاب ليقودنا نحو تأمّل مُعمّق في إحساس الهوية، بين الشرق والغرب، مضيئًا على مسارات العقل وفلسفة الوجود. يبدأ شايغان بنقطة ارتكاز أساسية: تتداخل فينا القيم الغربية الكونية والعقلانية التنويرية مع موروث ديني ثقيل يمتد لقرون، فتصبح الهوية الشرقية على مفترق طرق، إما أن تختزل أو تتحوّل عبر إندماج أحيانا مدروس، وأحيانا عبثي.
يتحرّى الكاتب في هويّاتنا: هل نحن كـ "معبّرات" عن هذا الإرث، أم "مبدعين" في ضوء معطيات العصر؟ يدفعنا لنقاشٍ صادق حول "أدلجة الدين" – مصطلح ابتكره قبل أكثر من ثلاثين سنة – حيث يتجاوز الدين القصائد والمناسك، ليغدو أداة للتأطير السياسي والأيديولوجي، يسيطر بها على الأدب والفن والفكر.
. ويخاطبنا: لماذا نُعيد إنتاج صراعات الماضي، ونحن قادرون على تنويع الهويات والجمع بينها؟
يغوص شايغان في اهتمامٍ عميق بما يجمع الإنسان في الشرق والغرب: القلق الوجودي، الأسئلة حول الحرية، الموت، الروحانية والمحمول الإنساني. هذه الأسئلة ليست حكرًا على حضارة دون أخرى، لكن تنازعها في الوعي يخلق انقساماً بين الفكر المستنير والأصالة الدينية. لذلك يدعو إلى احترام العقلانية دون التنكّر للموروث الإنساني.
يمر الكتاب بسلاسة بين التأملات الفلسفية والتحليل التاريخي، ويكشف العلاقة المعقّدة بين الحداثة الغربية التي رأت في العقل أداة للانطلاق والتجديد، والشرقية التي رأت في التقليد صمام أمان أمام فوضى العولمة الثقافية. وهنا يضع شايغان توصيفًا نادرًا: الهوية مزيج هجين، كما وصفها في أعمال سابقة، تتغير بزمن الاجتماع، لكنه يرفض تصنيفة كثنائية صارمة .
على صفحات الكتاب نقرأ الانتقال من "خصوصية" الهوية إلى "عولمة" الأفكار، دون أن يُنزع أي منهما صفة الأصالة. إنه ليس دعوة للتبني الأعمى لأي نمط فكري، بل نداء للتعدد، لأن التعدد خيار وجودي يتيح لنا أن نبقى على ذاتنا ونواكب العصر.
بهذا الأسلوب الرشيق، يجعلنا الكتاب نعيد التفكير في علاقتنا بالغرب وموروثنا، دون أن نفقد ألق الانتماء، بل نمنح الهوية فرصة أن تكون واعية، مرنة، وحرة، قادرة على الحوار لا الصدام